الحلم بوابة هلامية تفتح على الممكن أحيانا أو المستحيل كثيرا لتخرجنا من ضيق الحاضر إلى رحابة الأمل، ومن فظاظة الواقع إلى لين المحتمل، وهو ليس سلبيا على الدوام، فالقادرون على صناعة خبز الأحلام هم أنفسهم القادرون على ملء صوامع المستقبل بقمح التغييرات المدهشة.
لكن الإيغال في الأحلام الطوباوية يفصلنا عن العالم، ويجعلنا فريسة سهلة ولقمة طرية في فم المستقبل، فترانا نكتفي بزرع أرصفة الحياة بورود من نسج الخيال وإدارة ظهورنا المتعبة لمشاكلنا المتفاقمة حتى تصير كالجبال، لندور في فراغات عدمية حتى تلتف حول رقابنا المرهفة حبال الآمال المعلقة ونختنق.
الأذكياء فقط هم من يستطيعون انتقاء أحلامهم وحياكتها بمهارة حاذق حتى تصبح بساط ريح يحملهم حيث يشاءون متى شاءوا ليرتشفوا جرعة من صلابة تمكنهم من عبور اللحظات المؤلمة، أو جرعة من مخدر تساعدهم على احتمال آلام المرحلة ومراراتها.
لكنهم يعلمون وهم يغادرون مدن الأرصفة الباردة أنهم سيعودون قريبا، وهو ما يمكنهم من التحليق برؤوس عالية في فراغ الحياة مع الحفاظ على قوائمهم ثابتة فوق بلاط الواقع البائس.
والمحظوظون هم الذين يستطيعون صناعة منطاد من الحلم ليحملهم واقعا لا خيالا فوق مدن الملح ليغادروا مواقع أحزانهم مرة واحدة وإلى الأبد إلى أرض أكثر خصوبة وواقع أكثر احتمالا.
والسعداء من لا يضطرهم الحلم إلى المقايضة، فيجعلهم يستبدلون سعادة قديمة بأخرى مستجدة، أو يشترون الوعد بالذكريات، أو يتخلون عن ديار أو أهل أو أحبة في مقابل العيش في واد ذي زرع بعيدة أرضه عال سياجه. فتلازمهم حسرة الفقد كلما خلوا بأحلامهم المشتهاة.
يقولون أن الفنان الراحل أنور وجدي كان من الحالمين الذين لم يجيدوا صناعة سفينة الأحلام لتحملهم فوق واقع لجي من البؤس والحرمان. فكان ينام فوق الأرصفة كثيرا وهو يحلم بالشهرة والنجومية. وحين تقرقر بطنه يهدئها بمسكن أحلامه الوردية.
وكان يتسكع أمام مسرح يوسف وهبي عله يلتقي بمشاهير الفن ليعرض عليهم بضاعته الكاسدة. ويحكى أنه التقى بالفنان يوسف وهبي ذات مرة، وعرض عليه أن يمنحه فرصة المرور أمام عينيه الذابلتين، لكن الممثل القدير انصرف عنه دون أن يبدي شيئا من اكتراث.
وتوسل أنور إلى الريجيسير قاسم وجدي ليقدمه للفنان الكبير، وبالفعل كان له ما أراد، فالتقى أخيرا في مسقط حلمه بمسرح رمسيس مع الفنان الكبير.
وهكذا، انتقل الحالم الشاب من النوم فوق رصيف الحياة إلى النوم فوق مقاعد المسرح الخشبية، ليمارس أحلامه من هناك. ويذكر أنه كان دائم الدعاء: “يا رب .. مليون جنيه وسرطان.” حتى أثر عنه هذا الحلم البائس وحفظه عنه رفاقه.
كان وجدي يتقاضى مبلغا لا يتجاوز اثنين أو ثلاثة جنيهات عن كل مسرحية يكتبها، ولهذا بدا حلم المليون أشبه بنوق عنترة الحمر في وادي الرمال المتحركة.
لكن الرجل كان مستعدا لدفع أي مقابل للحلم حتى وإن كان سرطانا في الأمعاء وبعدها، انتقل صاحبنا من المسرح إلى السينما ليتحول بقدرة ساحر من فتى الرصيف المختار إلى فتى الشاشة الأول، ليستبدل الأرائك الخشبية بالأسرة الناعمة، والطعام اليابس بالضأن والرومي والنعام.
لكن دعوة الرجل لم تكتمل حتى أخبره الطبيب بحقيقة مرضه، وأن عليه أن يمتنع عن مشاركة ضيوفه ما لذ وطاب من لحوم وأن يكتفي بالزبادي إن أراد أن يبقى فتى الشاشة المدلل لفترة أطول.
ولما لم يكن لدائه من دواء، أذعن وجدي لتعليمات الطبيب، واكتفى بمشاهدة رفاقه يمضغون أشهى اللحوم في حديقة قصره. حتى اضطر إلى مغادرته هو الآخر، والذهاب إلى السويد لإجراء جراحة فاشلة ليموت على إثرها، ويترك خلفه عمارات وأطيان وأموال قدرت حينها بمليون جنيه.
بعض الأحلام مكلفة للغاية، حتى وأن بعضها يكلف المرء راحته أو سعادته، وربما حياته. لهذا، يجب أن تكون حذرا عزيزي القارئ وأنت تضع اللمسات الأخيرة في نسيج حلمك، وأن تقارن التكاليف بالنتائج لترى إن كان يستحق المغامرة العاجلة، أو الانتظار إلى أجل غير مسمى، أو الوأد في مهد قلبك. فالذهاب مع المغامرة دون النظر إلى عواقب الأمور قد يكلفك ومن تحب ما تطيق أولا تطيق.
أنت وحدك من يمتلك حق اتخاذ القرار في تقدير وزن حلمك وتكريس حياتك له أو إدارة ظهرك. فأنت وحدك من يجني ثمار الحلم التي لن تكون بالضرورة حلوة المذاق.